لقد ضرب آل أبي بكر الصديق رضي الله عنه أروع الأمثلة في البر، وبلغوا أدقّه وخفاياه مما لا يفطن له كثير من الناس، ولأن البر أحد غاياتهم فهو لا يفوتهم حتى في أصعب المواقف وأحرج اللحظات.
من ذلك ما سطّرته لنا أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنها من برٍّ بأبيها؛ في موقف عصيب قد لا يخطر معه ببال أحد مثل هذا البر.
وقد قصّته رضي الله عنها بنفسها فقالت:
أن رسول الله ﷺ قال في مرضه “مروا أبا بكر يصلي بالناس”.
قالت عائشة: قلت إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يُسمع الناس من البكاء فمُر عمر فليصل.
فقال “مروا أبا بكر فليصل بالناس”.
فقالت عائشة: فقلت لحفصة قولي إن أبا بكر إذا قام في مقامك لم يسمع الناس من البكاء فمُر عمر فليصل بالناس.
ففعلت حفصة، فقال رسول الله ﷺ “إنكن لأنتن صواحب يوسف مروا أبا بكر فليصل للناس”.
فقالت حفصة لعائشة: ما كنت لأصيب منك خيراً.
ولعل سائل يتساءل ما وجه البر في هذه القصة؟ وإليك جوابها:
قالت عائشة رضي الله عنها:
“لقد راجعت رسول الله ﷺ في ذلك، وما حَمَلني على كَثرة مُراجعته إلا أنه لم يَقعْ في قلبي أن يُحبّ الناس بعده رجلاً قام مقامه أبداً، ولا كنت أرى أنه لن يقوم أحدٌ مقامه إلا تشاءم الناس به، فأردتُ أن يَعدل ذلك رسول الله ﷺ عن أبي بكر”.
خشيت رضي الله عنها أن يتشاءم الناس بأبيها حين يقوم مقام النبي ﷺفي الصلاة فراجعت النبي ﷺ ليصرف أبا بكر عن أن يقوم مقامه.
فقال قولته ﷺ وقد فهم قصدها وما ترمي إليه:
“إنكن لأنتن صواحب يوسف”.
قال العلامة ابن رجب رحمه الله:
“وكانت عائشة هي التي أشارت بصرف الإمامة عن أبي بكر؛ لمخافتها أن يتشاءم الناس بأول من خلف رسول الله في الإمامة، فكان إظهارها لرقة أبي بكر خشية أن لا يسمع الناس توصلاً إلى ما تريده من صرف التشاؤم عن أبيها. ففيه نوع مشابهة لما أظهره النسوة مع يوسف ﷺ مما لا حقيقة له توصلاً إلى مرادهن.
وكان قصد النبي ﷺ تقديم أبي بكر على الناس في أهم أمور الدين حتى تكون الدنيا تبعاً للدين في ذلك”.
وقس على هذا الموقف غيره مما ينبغي على الولد تجاه والده من الحفاظ على سمعة أبيه وجنابه وحشمته، لا سيما عند كبره، وضعف قوته وعقله، فكثيراً ما يحصل التهاون عند هذه الحال من الوالد بحجة أنه لا يدرك ولا يكترث، ويكفي كراهية كل منا أن يبلغ هذا الحال وأن يرى منه الناس ما لا يرضاه.
فصون الوالد عندئذ من أعظم البر والإحسان إليه.
رزقنا الله وإياكم البر والإحسان.